فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الفخر:

أما قوله تعالى: {لِيَحْكُمَ بَيْنَ الناس} فاعلم أنه قوله: {لِيَحْكُمَ} فعل فلابد من استناده إلى شيء تقدم ذكره، وقد تقدم ذكر أمور ثلاثة، فأقربها إلى هذا اللفظ: الكتاب، ثم النبيون، ثم الله فلا جرم كان إضمار كل واحد منها صحيحًا، فيكون المعنى: ليحكم الله، أو النبي المنزل عليه، أو الكتاب، ثم إن كل واحد من هذه الاحتمالات يختص بوجه ترجيح، أما الكتاب فلأنه أقرب المذكورات، وأما الله فلأنه سبحانه هو الحاكم في الحقيقة لا الكتاب، وأما النبي فلأنه هو المظهر فلا يبعد أن يقال: حمله على الكتاب أولى، أقصى ما في الباب أن يقال: الحاكم هو الله، فإسناد الحكم إلى الكتاب مجاز إلا أن نقول: هذا المجاز يحسن تحمله لوجهين الأول: أنه مجاز مشهور يقال: حكم الكتاب بكذا، وقضى كتاب الله بكذا، ورضينا بكتاب الله، وإذا جاز أن يكون هدى وشفاء، جاز أن يكون حاكمًا قال تعالى: {إِنَّ هذا القرءان يِهْدِى لِلَّتِى هي أَقْوَمُ وَيُبَشّرُ المؤمنين} [الإسراء: 9] والثاني: أنه يفيد تفخيم شأن القرآن وتعظيم حاله. اهـ.

.قال ابن عاشور:

والضمير في {ليحكم} راجع إلى الكتاب فإسناد الحكم إلى الكتاب مجاز عقلي، لأنه مبين ما به الحكم، أو فعل يحكم مجاز في البيان. ويجوز رجوع الضمير إلى اسم الجلالة أي أنزل الله الكتاب ليحكم بينهم إسناد الحكم مجاز عقلي، لأنه المسبب له والأمر بالقضاء به، وتعدية {يحكم} ببين لأنه لم يعين فيه محكوم له أو عليه.
وحكم الكتاب بين الناس بيان الحق والرشد والاستدلال عليه، وكونه فيما اختلفوا فيه كناية عن إظهاره الحق، لأن الحق واحد لا يختلف فيه إلاّ عن ضلال أو خطأ، ولهذا قال جمهور علمائنا إن المصيب في الاجتهاديات واحد. اهـ.

.قال ابن عادل:

وبَيْنَ مُتَعلِّقٌ بيَحْكُمْ. والظَّرفيةُ هنا مجازٌ. وكذلك {فِيما اخْتَلَفُوا} مُتعلقٌ به أيضًا. ومَا موصولةٌ، والمرادُ بها الدِّينُ، أي: ليحكم اللَّهُ بين الناسِ في الدِّين، بعد أَنْ كانُوا مُتفقين عيه. ويضعُفُ أَنْ يْرَادَ بما النبيُّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنها لغير العقلاء غالبًا. و{فِيهِ} متعلِّقٌ ب {اخْتَلَفُوا}، والضميرُ عائدٌ على ما الموصولة. اهـ.

.قال الفخر:

أما قوله تعالى: {فِيمَا اختلفوا فِيهِ} فاعلم أن الهاء في قوله: {فِيمَا اختلفوا فِيهِ} يجب أن يكون راجعًا، إما إلى الكتاب، وإما إلى الحق، لأن ذكرهما جميعًا قد تقدم، لكن رجوعه إلى الحق أولى، لأن الآية دلت على أنه تعالى إنما أنزل الكتاب ليكون حاكمًا فيما اختلفوا فيه فالكتاب حاكم، والمختلف فيه محكوم عليه، والحاكم يجب أن يكون مغايرًا للمحكوم عليه. اهـ.
قال الفخر:
أما قوله تعالى: {وَمَا اختلف فِيهِ إِلاَّ الذين أُوتُوهُ} فالهاء الأولى راجعة إلى الحق والثانية: إلى الكتاب والتقدير: وما اختلف في الحق إلا الذين أوتوا الكتاب، ثم قال أكثر المفسرين: المراد بهؤلاء: اليهود والنصارى والله تعالى كثيرًا ما يذكرهم في القرآن بهذا اللفظ كقوله: {وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ} [المائدة: 5] {قُلْ ياأهل تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران: 64] ثم المراد باختلافهم يحتمل أن يكون هو تكفير بعضهم بعضًا كقوله تعالى: {وَقَالَتِ اليهود لَيْسَتِ النصارى على شَئ وَقَالَتِ النصارى لَيْسَتِ اليهود على شَئ وَهُمْ يَتْلُونَ الكتاب} [البقرة: 113] ويحتمل أن يكون اختلافهم تحريفهم وتبديلهم، فقوله: {وَمَا اختلف فِيهِ إِلاَّ الذين أُوتُوهُ} أي وما اختلف في الحق إلا الذين أوتوا الكتاب مع أنه كان المقصود من إنزال الكتاب أن لا يختلفوا وأن يرفعوا المنازعة في الدين واعلم أن هذا يدل على أن الاختلاف في الحق لم يوجد إلا بعد بعثة الأنبياء وإنزال الكتب وذلك يوجب أن قبل بعثهم ما كان الاختلاف في الحق حاصلًا، بل كان الإتفاق في الحق حاصلًا وهو يدل على أن قوله تعالى: {كَانَ الناس أُمَّةً واحدة} معناه أمة واحدة في دين الحق. اهـ.

.قال الواحدي:

{وما اختلف فيه إلاَّ الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيًا} أَيْ: وما اختلفَ في أمر محمَّدٍ بعد وضوح الدّلالات لهم بغيًا وحسدًا إلاَّ اليهودُ الذين أوتوا الكتاب؛ لأنَّ المشركين- وإن اختلفوا في أمر محمَّد عليه السَّلام- فإنَّهم لم يفعلوا ذلك للبغي، والحسد، ولم تأتهم البيِّنات في شأن محمَّد عليه السَّلام، كما أتت اليهود، فاليهود مخصوصون من هذا الوجه. اهـ.

.قال ابن عاشور:

قوله تعالى: {وَمَا اختلف فِيهِ إِلاَّ الذين أُوتُوهُ} عطف على جملة: {أنزل معهم الكتاب بالحق} لبيان حقيقة أخرى من أحوال اختلاف الأمم وهو الاختلاف بين أهل الكتاب بعضهم مع بعض وبين أهل الكتاب الواحد مع تلقيهم دينًا واحدًا، والمعنى وأنزل معهم الكتاب بالحق فاختلف فيه كما قال تعالى: {ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه} [هود: 110]. والمعنى وما اختلف فيه إلا أقوامهم الذين أوتوا كتبهم فاستغنى بجملة القصر عن الجملة الأخرى لتضمن جملة القصر إثباتًا ونفيًا. فاللَّه بعث الرسل لإبطال الضلال الحاصل من جهل البشر بصلاحهم فجاءت الرسل بالهدى، اتبعهم من اتبعهم فاهتدى وأعرض عنهم من أعرض فبقي في ضلالة، فإرسال الرسل لإبطال الاختلاف بين الحق والباطل، ثم أحدث اتباع الرسل بعدهم اختلافًا آخر وهو اختلاف كل قوم في نفس شريعتهم. والمقصود من هذا بيان عجيب حال البشر في تسرعهم إلى الضلال، وهي حقيقة تاريخية من تاريخ الشرائع، وتحذير المسلمين من الوقوع في مثل ذلك.
والتعريض بأهل الكتاب وهم أشهر أهل الشرائع يومئذٍ فيما صنعوا بكتبهم من الاختلاف فيها، وهذا من بديع استطراد القرآن في توبيخ أهل الكتاب وخاصة اليهود وهي طريقة عربية بليغة قال زهير:
إن البخيل ملوم حين كان ** ولكن الجوادَ على علاَّته هرم

وقال الفرزدق يمدح الخليفة ويستطرد بهجاء جرير:
إلى مَلِك ما أُمُّه من مُحَارِب ** أبُوه ولا كانَتْ كُلَيْبٌ تصاهره

والضمير من قوله: {فيه} يجوز أن يعود إلى الكتاب وأن يعود إلى الحق الذي تضمنه الكتاب، والمعنى على التقديرين واحد، لأن الكتاب أنزل ملابسًا للحق ومصاحبًا له فإذا اختلف في الكتاب اختلف في الحق الذي فيه وبالعكس على طريقة قياس المساواة في المنطق.
في تحريف المراد منه مذهبًا يخالف مذهب الآخر في أصول الشرع لا في الفروع، فإن الاختلاف في أصوله يعطل المقصود منه.
وجيء بالموصول دون غيره من المعرفات لما في الصلة من الأمر العجيب وهو أن يكون المختلفون في مقصد الكتاب هم الذين أعطوا الكتاب ليزيلوا به الخلاف بين الناس فأصبحوا هم سبب خلاف فيه، ولا شك أن ذلك يبطل المراد منه.
والمعنى تشنيع حال الذين أوتوه بأن كانوا أسوأ حالًا من المختلفين في الحق قبل مجيء الشرائع، لأن أولئك لهم بعض العذر بخلاف الذين اختلفوا بعد كون الكتاب بأيديهم. اهـ.

.قال الفخر:

أما قوله تعالى: {مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينات} فهو يقتضي أن يكون إيتاء الله تعالى إياهم الكتاب كان بعد مجيء البينات فتكون هذه البينات مغايرة لا محالة لإيتاء الكتاب وهذه البينات لا يمكن حملها على شيء سوى الدلائل العقلية التي نصبها الله تعالى على إثبات الأصول التي لا يمكن القول بالنبوة إلا بعد ثبوتها، وذلك لأن المتكلمين يقولون كل ما لا يصح إثبات النبوة إلا بعد ثبوته، فذلك لا يمكن إثباته بالدلائل السمعية وإلا وقع الدور، بل لابد من إثباتها بالدلائل العقلية فهذه الدلائل هي البينات المتقدمة على إيتاء الله الكتب إياهم. اهـ.

.قال أبو حيان:

قوله تعالى: {وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيًا بينهم} الضمير من قوله: وما اختلف فيه، يعود على ما عاد عليه في: فيه، الأولى، وقد تقدّم أنها عائدة على: ما، وشرح ما المعنى: بما، أهو الدين، أو محمد صلى الله عليه وسلم؟ أم دينه؟ أم هما؟ أم كتابه؟
والضمير في: أوتوه، عائد إذ ذاك على ما عاد عليه الضمير في: فيه، وقيل: الضمير في: فيه، عائد على الكتاب، وأوتوه عائد أيضًا على الكتاب، التقدير: وما اختلف في الكتاب إلاَّ الذين أوتوه، أي: أوتوا الكتاب.
وقال الزجاج: الضمير في: فيه، الثانية يجوز أن يعود على النبي صلى الله عليه وسلم، أي: وما اختلف في النبي صلى الله عليه وسلم إلاَّ الذين أوتوه، أي: أوتوا علم نبوّته، فعلوا ذلك للبغي، وعلى هذا يكون الكتاب: التوراة، والذين أوتوه اليهود.
وقيل: الضمير في: فيه، عائد على ما اختلفوا فيه من حكم التوراة والقبلة وغيرهما، وقيل: يعود الضمير في: فيه، على عيسى صلى الله على نبينا وعليه.
وقال مقاتل: الضمير عائد على الدين، أي: وما اختلف في الدين. انتهى.
والذي يظهر من سياق الكلام وحسن التركيب أن الضمائر كلها في: أوتوه وفيه الأولى والثانية، يعود على: ما، الموصولة في قوله: وما اختلفوا فيه، وأن الذين اختلفوا فيه مفهومه كل شيء اختلفوا فيه فمرجعه إلى الله، بينه بما نزل في الكتاب، أو إلى الكتاب إذ فيه جميع ما يحتاج إليه المكلف، أو إلى النبي يوضحه بالكتاب على الأقوال التي سبقت في الفاعل في قوله: {ليحكم}.
والذين أوتوه أرباب العلم به والدراسة له، وخصهم بالذكر تنبيهًا منه على شناعة فعلهم، وقبيح ما فعلوه من الاختلاف، ولأن غيرهم تبع لهم في الاختلاف فهم أصل الشر، وأتى بلفظ: من، الدالة على ابتداء الغاية منبهًا على أن اختلافهم متصل بأول زمان مجيء البينات، لم يقع منهم اتفاق على شيء بعد المجيء، بل بنفس ما جاءتهم البينات اختلفوا، لم يتخلل بينهما فترة. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {من بعد ما جاءتهم البينات} متعلق باختلف، والبينات جمع بينة وهي الحجة والدليل. والمراد بالبينات هنا الدلائل التي من شأنها الصدّ عن الاختلاف في مقاصد الشريعة، وهي النصوص التي لا تحتمل غير مدلولاتها أعني قواطع الشريعة، والظواهر المتعاضدة التي التحقت بالقواطع. والظواهر التي لم يدع داع إلى تأويلها ولا عارضها معارض. والظواهر المتعارضة التي دل تعارضها على أن محمل كل منها على حالة لا تعارض حالة محمل الآخر وهو المعبر عنه في الأصول بالجمع بين الأدلة وتواريخ التشريع الدالة على نسخ حكم حكمًا آخر، أو ما يقوم مقام التاريخ من نحو هذا ناسخ، أو كان الحكم كذا فصار كذا، فهذه بينات مانعة من الاختلاف لو كان غرض الأمم اتباع الحق ومجئ البينات بلوغ ما يدل عليها وظهور المراد منها.
والبعدية هنا: بعدية اعتبار لم يقصد منها تأخر زمان الاختلاف عن مجيء البينات، وإن كان هو كذلك في نفس الأمر، أي إن الخلاف كان في حالة تقررت فيها دلائل الحق في نفوس المختلفين. اهـ.